هل القرآن نسخ الكتب التي
قبله
قبله
نحب أن ننبه بداية أننا ما
زلنا على ما أثبتناه من أن
الأناجيل التي بأيدي النصارى ليس أي واحد منها هو الإنجيل الذي أنزله الله
على نبيه عيسى عليه السلام ، فإن قيل: إذا لم يكن ما بأيدي النصارى من أناجيل
هو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ، فما فائدة إثباتكم القول بنسخ
القرآن له ؟ فنقول: إن كلامنا وإن كان في الأصل وارداً على
إنجيل عيسى عليه السلام أي أننا نرى أن إنجيل عيسى لو كان
موجوداً فهو منسوخ بالقرآن الكريم ، إلا أن كلامنا وارد أيضاً على ما بأيدي النصارى من باب التنزل، بمعنى أننا نقول لو كانت تلك الأناجيل
التي بأيدي النصارى هي إنجيل عيسى عليه السلام فهي أيضا
منسوخة بالقرآن .
والأدلة على ذلك كثيرة
منها قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }(المائدة:48) قال ابن تيمية : " فجعل القرآن مهيمنا
والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم
ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل " ومن الأدلة أيضا على نسخ القرآن للكتب السابقة ما رواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه لو كان موسى حيا بين
أظهركم ما حل له إلا أن
يتبعني )، ومنها أن المسيح عيسى بن
مريم عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيحكم
بالقرآن والسنة، وليس بالتوراة والإنجيل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل
فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب،
ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد
)رواه البخاري ومسلم .
وعلى نسخ القرآن للكتب السابقة أجمع المسلمون قاطبة في كل عصر ومصر، وليس
معنى النسخ هنا إبطال كل ما جاء في الكتب
السابقة ، كلا ، فكتب الله عز وجل على تنوعها واختلافها في
بعض الأحكام إلا أن نقاط الاتفاق فيها كثيرة، ولا سيما في جانب التوحيد والاعتقاد ، وكذلك في جانب الأخبار فهي في ذلك تتفق ولا
تختلف .
إذا ثبت هذا فلننتقل إلى مناقشة
النصارى في سبب إنكارهم نسخ القرآن لكتابهم " الإنجيل " ، وقبل ذلك لابد من التنبيه على
أن هذه المسألة لا ينبغي أن تكون هي المنطلق
في محاورتنا للنصارى ولغيرهم من أهل الكتاب، بل يجب أن تكون نقطة الانطلاق
هي إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته، فإن من
يسلم بذلك يلزمه أن يسلم بنسخ الكتب السابقة
.
ولكن مناقشتنا إياهم في هذه المسألة على اعتبار أنها
أحد أوجه الخلاف بيننا وبينهم فلا بد أن
نعطيها حظا من النظر . فنقول وبالله التوفيق .
تمسك النصارى في نفيهم نسخ القرآن للإنجيل بأمرين :
الأول عقلي ، والثاني نقلي ، أما العقلي فقالوا : إن الله لا
ينسخ كتابا بكتاب إلا إذا ثبت عجز الكتاب
المنسوخ وضعفه، فالله قد نسخ التوراة بالإنجيل لعجز التوراة وضعفها، ولكن الإنجيل ما زال قويا قادرا، ولذلك لم ينسخه الله، وفي هذا
يقول بولس: ( فَلَوْ كَانَ الْعَهْدُ
السَّابِقُ بِلاَ عَيْبٍ، لَمَا ظَهَرَتْ الْحَاجَةُ إِلَى عَهْدٍ آخَرَ يَحُلُّ مَحَلَّهُ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ اللهَ
نَفْسَهُ يُعَبِّرُ عَنْ عَجْزِ الْعَهْدِ السَّابِقِ ) انتهى
من رسالة العبرانيين .
فهذا كلام بولس
الذي يعدونه من الرسل وهو عندهم أعظم من حواريي عيسى عليه السلام ، وفيه من الخطل ونسبة العيب إلى كلام الله عز وجل ما لا
يليق أن ينطق به مؤمن، وهذه النظرة إلى مفهوم النسخ أو إلى
حقيقته تمثل فارقا هاما مع مفهوم النسخ عند المسلمين، ذلك
المفهوم الذي يثبت النسخ دون أن يكون في إثباته ما يوحي بنسبة النقص إلى الله سبحانه، بل يدل على كمال الله سبحانه وعظيم حكمته ، ذلك أن النسخ
عند المسلمين بداية إنما يقع في الأحكام فحسب وهو لا يدل على
ضعف أو عجز أو قصور في الحكم السابق، بل على العكس يدل على
كمال حكمة الله سبحانه في تشريع ما يناسب الناس في مختلف
أحوالهم وأزمانهم، فما كان مناسبا لأمة قد
لا يكون مناسباً لأمة أخرى ، وما كان حسنا
في زمن قد لا يكون حسنا في زمن آخر ، وبالنظر في تفاصيل الأحكام الناسخة والمنسوخة تظهر حكمة الله عز وجل من النسخ .
هذا فيما يتعلق بالرد عليهم من جهة العقل ، أما ما
احتجوا به من جهة الأثر أو النقل فهو أضعف
حجة وأوهن برهاناً ، فقد استدلوا بما ورد في أناجيلهم مما نسب إلى المسيح
عليه السلام قوله : " إِنَّ
السَّمَاءَ وَالأَرْضَ تَزُولاَنِ؛ وَلكِنَّ كَلاَمِي
لاَ يَزُولُ أَبَداً " وهي
حجة ربما بدت قوية في بادئ الأمر، إلا أن ذلك سرعان ما
يزول ، ولا سيما عندما توضع هذه الكلمة في سياقها الذي وردت فيه ،
فهذه هي الفقرة التي وردت فيها الكلمة المذكورة : فقد جاء في
إنجيل متى 29-35 :24 " وَحَالاً بَعْدَ الضِّيقَةِ فِي
تِلْكَ الأَيَّامِ ( قرب نزول عيسى عليه السلام )، تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَيَحْجُبُ الْقَمَرُ ضَوْءَهُ، وَتَتَهَاوَى النُّجُومُ
مِنَ السَّمَاءِ، وَتَتَزَعْزَعُ قُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ.
وَعِنْدَئِذٍ تَظْهَرُ آيَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي
السَّمَاءِ، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّهَا، وَيَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ
وَمَجْدٍ عَظِيمٍ. وَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِصَوْتِ بُوقٍ
عَظِيمٍ لِيَجْمَعُوا مُخْتَارِيهِ مِنَ الْجِهَاتِ
الأَرْبَعِ، مِنْ أَقَاصِي السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقَاصِيهَا .
وَتَعَلَّمُوا هَذَا الْمَثَلَ مِنْ شَجَرَةِ التِّينِ: عِنْدَمَا تَلِينُ أَغْصَانُهَا، وَتُطْلِعُ وَرَقاً، تَعْرِفُونَ أَنَّ الصَّيْفَ
قَرِيبٌ. هَكَذَا أَيْضاً حِينَ تَرَوْنَ
هَذِهِ الأُمُورَ جَمِيعَهَا تَحْدُثُ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ بَلْ عَلَى
الأَبْوَابِ! . الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَزُولُ
هَذَا الْجِيلُ أَبَداً، حَتَّى تَحْدُثَ هَذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا.
إِنَّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ تَزُولاَنِ؛ وَلكِنَّ كَلاَمِي
لاَ يَزُولُ أَبَداً. ) أ.هـ فواضح من خلال هذا السياق أن
عيسى عليه السلام أراد باستحالة زوال كلامه ما يتعلق منه بخبر
نزوله ، فهو بالتالي خارج عن محل النقاش ذلك أن نقاشنا في نسخ أحكام الإنجيل، لا في نسخ أخباره الثابتة عن عيسى عليه
السلام.
ولظهور دلالة السياق على ذلك
فقد نص عليه اثنان من كبار شراح الإنجيل، يقول القسيس
بيرس مراده شارحا قول المسيح الآنف: " تقع الأمور التي أخبرت عنها يقينا " ، وقال دين استاين
هوب : " أن السماء والأرض وإن كانتا غير
قابلتين للتبدل بالنسبة إلى الأشياء الأخرى
لكنهما ليستا بمحكمتين مثل إحكام إخباري بالأمور التي أخبرت عنها فتلك كلها تزول وأخباري بالأمور التي أخبرت عنها لا يزول بل القول الذي
قلته الآن لا يتجاوز شيء منه عن مطلبه ". أ.هـ نقلا عن كتاب إظهار الحق .
ومما يحتج به على القائلين بامتناع النسخ أيضا أن يقال : أليس من المعلوم
أن شريعة موسى هي شريعة عيسى عليه السلام ،
فعيسى لم يأت بشرع جديد في الجملة ،بل جاء حافظا ومصححا
لأوضاع اليهود المبتدعة الخارجة عن شريعة موسى ، فقد قال كما في إنجيل
متى 5:17 " لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس
أو الأنبياء.ما جئت لانقض بل لأكمّل " فأي نسخ للتوراة هو نسخ للإنجيل
أيضاً ، فإذا ثبت هذا فنقول لقد ثبت في التوراة تحريم أشياء
منها الخنزير والأرنب والوبر وغيرها وهي من شريعة اليهود وبالتالي فالواجب
على النصارى التزام ذلك ، فجاء بولس ونسخ ذلك بمجرد رأيه وهواه ، فقد
جاء في الرسالة الرومية 14:14 : " إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته
إلا من يحسب شيئا نجسا فله هو
نجس ".
وكان على الداخل في دين المسيح
أن يختتن كما هو مقتضى شريعة موسى عليه السلام ، لكن لما رأى بولس وعدد من أتباع المسيح نفور المدعويين من الأمم الأخرى من
الختان قرروا إلغاء هذه الشريعة، تحببيا للناس في دين عيسى
عليه السلام فلم ينسخوا الختان فحسب بل جل الشريعة الموسوية
ولم يبقوا إلا أربعة أشياء حرمة قرابين الأوثان والدم والمخنوق والزنا .
والدليل
على ذلك ما ورد في سفر أعمال الرسل من أن أتباع المسيح عليه السلام لما ذهبوا يدعون الأمم لم يأمروهم بالختان فثار عليهم اليهود
المحافظون - الذين تنصروا - وقالوا لهم :
إنما بعث عيسى بالمحافظة على شريعة موسى وأنكروا على من تنصر وترك شريعة موسى، وهنا اجتمع المعنيون بالدعوة إلى النصرانية
الجديدة وقرروا أن لا يكلفوا الناس بشريعة موسى سوى بأربعة
أشياء وهي : تحريم المخنوق والدم والزنا وقرابين الأوثان، وفي
ذلك يقول يعقوب كما في سفر أعمال الرسل : ( لِذَلِكَ أَرَى أَنْ لاَ نَضَعَ عِبْئاً عَلَى الْمُهْتَدِينَ إِلَى اللهِ مِنْ غَيْرِ
الْيَهُودِ، بَلْ نَكْتُبُ إِلَيْهِمْ رِسَالَةً نُوصِيهِمْ
فِيهَا بِأَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ
النَّجِسَةِ الْمُقَرَّبَةِ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ارْتِكَابِ
الزِّنَى، وَعَنْ تَنَاوُلِ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَخْنُوقَةِ، وَعَنِ الدَّمِ ) فهذا نسخ صريح لمجمل شريعة موسى .
ونحن لا نناقش في فعل بولس ومن وافقه هل هو حق أم
باطل ؟ فذلك له موضع آخر ، ولكننا نستدل
بفعلهم هذا على رد دعوى من ادعى عدم جواز نسخ الإنجيل، فهؤلاء الأتباع قد
نسخوا ما جاء عيسى بتأكيده والحث عليه وهو العمل بشريعة موسى، وعليه
نقول : إذا جاز نسخ بعض أحكام التوراة بالإنجيل بل وبأقوال
الأتباع ، وجاز نسخ الإنجيل بأقوال بولس وأتباعه، أفلا يجوز
بعد ذلك أن ينسخ الله كتبه التوراة والإنجيل بالقرآن وهو الكتاب الخاتم ، إن جواز ذلك ثابت عقلا ونقلا ، وليس مع من أنكر ذلك من حجة يتكئ
عليها سوى المعاندة والكبر .
نسأل المولى عز وجل أن يجعلنا من دعاة الحق العاملين به ، وأن
يهدي ضال عباده إليه، إنه خير مأمول ومسئول
، والحمد لله رب العالمين
زلنا على ما أثبتناه من أن
الأناجيل التي بأيدي النصارى ليس أي واحد منها هو الإنجيل الذي أنزله الله
على نبيه عيسى عليه السلام ، فإن قيل: إذا لم يكن ما بأيدي النصارى من أناجيل
هو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ، فما فائدة إثباتكم القول بنسخ
القرآن له ؟ فنقول: إن كلامنا وإن كان في الأصل وارداً على
إنجيل عيسى عليه السلام أي أننا نرى أن إنجيل عيسى لو كان
موجوداً فهو منسوخ بالقرآن الكريم ، إلا أن كلامنا وارد أيضاً على ما بأيدي النصارى من باب التنزل، بمعنى أننا نقول لو كانت تلك الأناجيل
التي بأيدي النصارى هي إنجيل عيسى عليه السلام فهي أيضا
منسوخة بالقرآن .
والأدلة على ذلك كثيرة
منها قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }(المائدة:48) قال ابن تيمية : " فجعل القرآن مهيمنا
والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم
ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل " ومن الأدلة أيضا على نسخ القرآن للكتب السابقة ما رواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه لو كان موسى حيا بين
أظهركم ما حل له إلا أن
يتبعني )، ومنها أن المسيح عيسى بن
مريم عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيحكم
بالقرآن والسنة، وليس بالتوراة والإنجيل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل
فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب،
ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد
)رواه البخاري ومسلم .
وعلى نسخ القرآن للكتب السابقة أجمع المسلمون قاطبة في كل عصر ومصر، وليس
معنى النسخ هنا إبطال كل ما جاء في الكتب
السابقة ، كلا ، فكتب الله عز وجل على تنوعها واختلافها في
بعض الأحكام إلا أن نقاط الاتفاق فيها كثيرة، ولا سيما في جانب التوحيد والاعتقاد ، وكذلك في جانب الأخبار فهي في ذلك تتفق ولا
تختلف .
إذا ثبت هذا فلننتقل إلى مناقشة
النصارى في سبب إنكارهم نسخ القرآن لكتابهم " الإنجيل " ، وقبل ذلك لابد من التنبيه على
أن هذه المسألة لا ينبغي أن تكون هي المنطلق
في محاورتنا للنصارى ولغيرهم من أهل الكتاب، بل يجب أن تكون نقطة الانطلاق
هي إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته، فإن من
يسلم بذلك يلزمه أن يسلم بنسخ الكتب السابقة
.
ولكن مناقشتنا إياهم في هذه المسألة على اعتبار أنها
أحد أوجه الخلاف بيننا وبينهم فلا بد أن
نعطيها حظا من النظر . فنقول وبالله التوفيق .
تمسك النصارى في نفيهم نسخ القرآن للإنجيل بأمرين :
الأول عقلي ، والثاني نقلي ، أما العقلي فقالوا : إن الله لا
ينسخ كتابا بكتاب إلا إذا ثبت عجز الكتاب
المنسوخ وضعفه، فالله قد نسخ التوراة بالإنجيل لعجز التوراة وضعفها، ولكن الإنجيل ما زال قويا قادرا، ولذلك لم ينسخه الله، وفي هذا
يقول بولس: ( فَلَوْ كَانَ الْعَهْدُ
السَّابِقُ بِلاَ عَيْبٍ، لَمَا ظَهَرَتْ الْحَاجَةُ إِلَى عَهْدٍ آخَرَ يَحُلُّ مَحَلَّهُ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ اللهَ
نَفْسَهُ يُعَبِّرُ عَنْ عَجْزِ الْعَهْدِ السَّابِقِ ) انتهى
من رسالة العبرانيين .
فهذا كلام بولس
الذي يعدونه من الرسل وهو عندهم أعظم من حواريي عيسى عليه السلام ، وفيه من الخطل ونسبة العيب إلى كلام الله عز وجل ما لا
يليق أن ينطق به مؤمن، وهذه النظرة إلى مفهوم النسخ أو إلى
حقيقته تمثل فارقا هاما مع مفهوم النسخ عند المسلمين، ذلك
المفهوم الذي يثبت النسخ دون أن يكون في إثباته ما يوحي بنسبة النقص إلى الله سبحانه، بل يدل على كمال الله سبحانه وعظيم حكمته ، ذلك أن النسخ
عند المسلمين بداية إنما يقع في الأحكام فحسب وهو لا يدل على
ضعف أو عجز أو قصور في الحكم السابق، بل على العكس يدل على
كمال حكمة الله سبحانه في تشريع ما يناسب الناس في مختلف
أحوالهم وأزمانهم، فما كان مناسبا لأمة قد
لا يكون مناسباً لأمة أخرى ، وما كان حسنا
في زمن قد لا يكون حسنا في زمن آخر ، وبالنظر في تفاصيل الأحكام الناسخة والمنسوخة تظهر حكمة الله عز وجل من النسخ .
هذا فيما يتعلق بالرد عليهم من جهة العقل ، أما ما
احتجوا به من جهة الأثر أو النقل فهو أضعف
حجة وأوهن برهاناً ، فقد استدلوا بما ورد في أناجيلهم مما نسب إلى المسيح
عليه السلام قوله : " إِنَّ
السَّمَاءَ وَالأَرْضَ تَزُولاَنِ؛ وَلكِنَّ كَلاَمِي
لاَ يَزُولُ أَبَداً " وهي
حجة ربما بدت قوية في بادئ الأمر، إلا أن ذلك سرعان ما
يزول ، ولا سيما عندما توضع هذه الكلمة في سياقها الذي وردت فيه ،
فهذه هي الفقرة التي وردت فيها الكلمة المذكورة : فقد جاء في
إنجيل متى 29-35 :24 " وَحَالاً بَعْدَ الضِّيقَةِ فِي
تِلْكَ الأَيَّامِ ( قرب نزول عيسى عليه السلام )، تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَيَحْجُبُ الْقَمَرُ ضَوْءَهُ، وَتَتَهَاوَى النُّجُومُ
مِنَ السَّمَاءِ، وَتَتَزَعْزَعُ قُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ.
وَعِنْدَئِذٍ تَظْهَرُ آيَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي
السَّمَاءِ، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّهَا، وَيَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ
وَمَجْدٍ عَظِيمٍ. وَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِصَوْتِ بُوقٍ
عَظِيمٍ لِيَجْمَعُوا مُخْتَارِيهِ مِنَ الْجِهَاتِ
الأَرْبَعِ، مِنْ أَقَاصِي السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقَاصِيهَا .
وَتَعَلَّمُوا هَذَا الْمَثَلَ مِنْ شَجَرَةِ التِّينِ: عِنْدَمَا تَلِينُ أَغْصَانُهَا، وَتُطْلِعُ وَرَقاً، تَعْرِفُونَ أَنَّ الصَّيْفَ
قَرِيبٌ. هَكَذَا أَيْضاً حِينَ تَرَوْنَ
هَذِهِ الأُمُورَ جَمِيعَهَا تَحْدُثُ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ بَلْ عَلَى
الأَبْوَابِ! . الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَزُولُ
هَذَا الْجِيلُ أَبَداً، حَتَّى تَحْدُثَ هَذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا.
إِنَّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ تَزُولاَنِ؛ وَلكِنَّ كَلاَمِي
لاَ يَزُولُ أَبَداً. ) أ.هـ فواضح من خلال هذا السياق أن
عيسى عليه السلام أراد باستحالة زوال كلامه ما يتعلق منه بخبر
نزوله ، فهو بالتالي خارج عن محل النقاش ذلك أن نقاشنا في نسخ أحكام الإنجيل، لا في نسخ أخباره الثابتة عن عيسى عليه
السلام.
ولظهور دلالة السياق على ذلك
فقد نص عليه اثنان من كبار شراح الإنجيل، يقول القسيس
بيرس مراده شارحا قول المسيح الآنف: " تقع الأمور التي أخبرت عنها يقينا " ، وقال دين استاين
هوب : " أن السماء والأرض وإن كانتا غير
قابلتين للتبدل بالنسبة إلى الأشياء الأخرى
لكنهما ليستا بمحكمتين مثل إحكام إخباري بالأمور التي أخبرت عنها فتلك كلها تزول وأخباري بالأمور التي أخبرت عنها لا يزول بل القول الذي
قلته الآن لا يتجاوز شيء منه عن مطلبه ". أ.هـ نقلا عن كتاب إظهار الحق .
ومما يحتج به على القائلين بامتناع النسخ أيضا أن يقال : أليس من المعلوم
أن شريعة موسى هي شريعة عيسى عليه السلام ،
فعيسى لم يأت بشرع جديد في الجملة ،بل جاء حافظا ومصححا
لأوضاع اليهود المبتدعة الخارجة عن شريعة موسى ، فقد قال كما في إنجيل
متى 5:17 " لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس
أو الأنبياء.ما جئت لانقض بل لأكمّل " فأي نسخ للتوراة هو نسخ للإنجيل
أيضاً ، فإذا ثبت هذا فنقول لقد ثبت في التوراة تحريم أشياء
منها الخنزير والأرنب والوبر وغيرها وهي من شريعة اليهود وبالتالي فالواجب
على النصارى التزام ذلك ، فجاء بولس ونسخ ذلك بمجرد رأيه وهواه ، فقد
جاء في الرسالة الرومية 14:14 : " إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته
إلا من يحسب شيئا نجسا فله هو
نجس ".
وكان على الداخل في دين المسيح
أن يختتن كما هو مقتضى شريعة موسى عليه السلام ، لكن لما رأى بولس وعدد من أتباع المسيح نفور المدعويين من الأمم الأخرى من
الختان قرروا إلغاء هذه الشريعة، تحببيا للناس في دين عيسى
عليه السلام فلم ينسخوا الختان فحسب بل جل الشريعة الموسوية
ولم يبقوا إلا أربعة أشياء حرمة قرابين الأوثان والدم والمخنوق والزنا .
والدليل
على ذلك ما ورد في سفر أعمال الرسل من أن أتباع المسيح عليه السلام لما ذهبوا يدعون الأمم لم يأمروهم بالختان فثار عليهم اليهود
المحافظون - الذين تنصروا - وقالوا لهم :
إنما بعث عيسى بالمحافظة على شريعة موسى وأنكروا على من تنصر وترك شريعة موسى، وهنا اجتمع المعنيون بالدعوة إلى النصرانية
الجديدة وقرروا أن لا يكلفوا الناس بشريعة موسى سوى بأربعة
أشياء وهي : تحريم المخنوق والدم والزنا وقرابين الأوثان، وفي
ذلك يقول يعقوب كما في سفر أعمال الرسل : ( لِذَلِكَ أَرَى أَنْ لاَ نَضَعَ عِبْئاً عَلَى الْمُهْتَدِينَ إِلَى اللهِ مِنْ غَيْرِ
الْيَهُودِ، بَلْ نَكْتُبُ إِلَيْهِمْ رِسَالَةً نُوصِيهِمْ
فِيهَا بِأَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ
النَّجِسَةِ الْمُقَرَّبَةِ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ارْتِكَابِ
الزِّنَى، وَعَنْ تَنَاوُلِ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَخْنُوقَةِ، وَعَنِ الدَّمِ ) فهذا نسخ صريح لمجمل شريعة موسى .
ونحن لا نناقش في فعل بولس ومن وافقه هل هو حق أم
باطل ؟ فذلك له موضع آخر ، ولكننا نستدل
بفعلهم هذا على رد دعوى من ادعى عدم جواز نسخ الإنجيل، فهؤلاء الأتباع قد
نسخوا ما جاء عيسى بتأكيده والحث عليه وهو العمل بشريعة موسى، وعليه
نقول : إذا جاز نسخ بعض أحكام التوراة بالإنجيل بل وبأقوال
الأتباع ، وجاز نسخ الإنجيل بأقوال بولس وأتباعه، أفلا يجوز
بعد ذلك أن ينسخ الله كتبه التوراة والإنجيل بالقرآن وهو الكتاب الخاتم ، إن جواز ذلك ثابت عقلا ونقلا ، وليس مع من أنكر ذلك من حجة يتكئ
عليها سوى المعاندة والكبر .
نسأل المولى عز وجل أن يجعلنا من دعاة الحق العاملين به ، وأن
يهدي ضال عباده إليه، إنه خير مأمول ومسئول
، والحمد لله رب العالمين
.